تحقيق/ إياد الحسني- لا يخفى على أحد حال ما بات يعرف "المستنكفين" عن العمل، من موظفي السلطة التابعين لحكومة رام الله في القطاع الذين يتقاضون رواتبهم منها، والذين أصبحوا بين عشية وضحاها بين فكي كماشة الانقسام، أو ما يُقال بين سنديان التهديد بقطع الراتب وضياع المستحقات في حال العودة للعمل، ومطرقة منعهم من مزاولة أي مهنة مهما كان نوعها بدعوى إعطاء فرصة عمل للمتعطلين عن العمل من عمال وخريجين جدد، أو كعقاب لهم على عدم تجاوبهم مع النداءات المتكررة لتلبية نداءات الواجب تجاه أبناء شعبهم من مرضى وطلاب.
وسواء كانت قرارات حكومة رام الله، أو كانت قرارات حكومة غزة هي الخاطئة أم الصائبة في هذا الجانب أو ذاك، فالأمر سيان بالنسبة للموظف الغلبان الذي أصبح لا يملك من أمر نفسه شيئاً، بل أصبح رهينة قرارات إدارية، وانقسامات سياسية، جعلته ليس في حيرة من أمره فحسب، بل ويعيش في معظم الأوقات أزمة ضمير بين واجبه المهني والوطني تجاه شعبه وأبناء جلدته الذي يحتم عليه السير مع حكومة غزة، وبين وضعه الاقتصادي والمعيشي المهدد بالضياع والذي يجعله أسير قرارات حكومة رام الله.
فهم من جهة ممنوعون بأمر من حكومة غزة، من تشكيل جمعيات خيرية وهيئات أهلية أو الانضمام إليها، ومن العمل كسائقي سيارات أو في أي مهن أخرى، ومن السفر للخارج دون الحصول على إذن مسبق من جهاز الأمن الداخلي التابع لحكومتها "عدم ممانعة"، ومن إعطاء دروس خصوصية، ومن فتح عيادات خاصة، ومن جهة أخرى ممنوعون من قبل حكومة رام الله أيضاً من العودة للعمل في سلك التعليم، ومن العمل في المستشفيات والمراكز الصحية التابعة لحكومة غزة، ومن الالتحاق بأي جهاز أمني أو شرطي مهما كان نوعه وتسميته، ومن التواجد في المحاكم للنظر في دعاوي المواطنين القضائية، ومن الترافع أمام قضاة حماس.
"أ.ح": الموظف العامل ذو قيمة
وفي هذا السياق قال الموظف في حكومة رام الله "المستنكف" (أ.ح)، إنه حين كان يذهب في السابق صباح كل يوم إلى العمل، ويعود منه في ساعات ما بعد الظهر إلى المنزل، كان ينظر إلى نفسه ذا قيمة كبيرة في نظر نفسه أولاً، وفي نظر زوجته وأولاده والمجتمع ثانياً.
وأضاف (ح)، أما الآن وبعد أن تبدَّل حاله للأسوأ بعد أن فرضت عليه الظروف القائمة الاستنكاف عن العمل كغيره الآلاف من الموظفين الآخرين، أصبح يشعر أنه بغير قيمة، كونه بات جليساً في البيت طوال الوقت مع زوجته وأولاده، الذين باتوا يتمنون عليه الخروج من المنزل والبحث عن أي فرصة عمل مهما كان نوعها كما كان في السابق، مشيراً إلى أن الاستنكاف غيَّر نمط حياته، حيث أصبح ليلهم نهار ونهارهم ليل.
وتابع، إنه أصبح ينظر الآن إلى الشخص الذي يذهب لعمله، على أنه يخرج لهدف، ويعود إلى بيته آخر النهار بعد أن يكون قد أنجز شيئاً مفيداً له ولمجتمعه، لا أن يتقاضى راتبه فقط وهو جالس في البيت، مضيفاً إنه ومع مرور أكثر من أربع سنوات على الاستنكاف، بدأ يفقد الكثير مما تعلمه في الجامعة وفي العمل أيضاً، ويحتاج الآن إلى وقت طويل كي يعود إلى سابق عهده من الحيوية والنشاط.
وحول إن كان باستطاعته البحث عن فرصة عمل جديدة لقتل الوقت وتغيير الروتين، أكد (ح) أنه لا يمكنه مزاحمة الآخرين في أعمالهم، لأنه من العيب جداً على الموظف الذي يتقاضى راتب أن يزاحم السائقين الذين ليس لهم أي فرصة عمل أخرى سوى قيادة السيارات، وكسب رزقهم من وراء ذلك، أو حتى الموظفين في المؤسسات الخاصة أو الأهلية في ظل وجود آلاف الخرجين الذين يبحثون عن فرص عمل.
مستنكف: قرار المنع مجحف وظالم بحق من لديهم الخبرة والقدرة على التطوع
من جانبه، وصف أحد موظفي السلطة الوطنية، والذي يتقاضى راتبه من الحكومة في الضفة، ويعمل متطوعا في مؤسسة أهلية بقطاع غزة، قرار حكومة غزة بالمجحف والظالم بحق من لديهم الخبرة والقدرة على العطاء والتطوع لخدمة أبناء شعبهم ووطنهم، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها القطاع المحاصر وسكانه، مضيفاً أن خروجه للعمل صباح كل يوم حتى وإن كان بدون أجر، فهو بمثابة كسر للروتين القاتل الذي وُضع فيه وآلاف الموظفين رغماً عنهم.
وأضاف الموظف، الذي فضل عدم كتابة اسمه، إن قراري حكومة رام الله بوقف الموظفين عن العمل، وحكومة غزة بمنع المستنكفين من العمل في أي مهنة كانت، يعمل على تدمير الإنسان الفلسطيني أولاً، والمؤسسات الأهلية التي تعتبر رافداً وداعماً أساسياً للمؤسسات الحكومية، كوزارة الصحة مثلاً، التي تعتمد بالأساس على بنك الدم المركزي، وجمعية الإغاثة الطبية، واتحاد لجان العمل الصحي وغيرها من المؤسسات الأخرى التي يعمل فيها أعداد كبيرة من الموظفين الذين فرض عليهم الواقع السياسي والانقسام الجلوس في منازلهم.
وتابع إنه ورغم عدم تطبيق القرار حتى الآن على أرض الواقع بشكل واسع، إلا أن الجميع منا مازال يحسب للحظة التي من الممكن أن يُمنع فيها من التطوع والجلوس في البيت من جديد ألف حساب، لأنه من أصعب اللحظات أن تفقد فيها احترامك لذاتك، وأن تهتز صورتك أمام أولادك وزوجتك، تطبيقاً للمثل الشعبي القائل "سبع داير ولا أسد نايم"، أي أن من يخرج من البيت قد يجدد علاقاته، ويقوي صداقاته، ويشعر بوجوده وكينونته.
وبيَّن أن عدم القيام بأي عمل، يحطم النفس ويترك آثاراً سلبية ليس على الشخص فحسب، بل وعلى أسرته جميعها، وبالتالي نطالب سلطتي فتح وحماس حل ما بينهما من خلاف، وإنهاء حالة الانقسام، وإن لم يتسنى لهما ذلك، فليبتعدا كل البعد عن قطاعي التعليم والصحة، لأن أولادنا وآبائنا أمانة في أعناقهما إلى يوم الدين، كما نحن الموظفين أيضاً أمانة في أعناقهم حين نُسأل يوم الموقف العظيم فيما أبلينا جسدنا، ومن أين اكتسبنا مالنا هل من رام الله أم من غزة، وهل هو حرام أم حلال، فجنبونا هذا السؤال بالله عليكم.
حماد: يُحظر على المستنكفين الانتساب للجمعيات الخيرية أو العمل كموظفين فيها
يُذكر أن وزير الداخلية في حكومة غزة السيد/ فتحي حماد، كان أصدر قراراً حمل عنوان "بشأن الموظفين المدنيين المستنكفين"، يقضي بمنع جميع موظفي السلطة الوطنية من سكان قطاع غزة من تشكيل الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية أو الانضمام إليها، قال فيه "يُحظر على جميع المستنكفين الانتساب للهيئات العمومية في الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية أو العمل كموظفين فيها أو أعضاء في مجالس إدارتها".
وأضاف حماد في قراره: "لا يتم اعتماد أي مجلس إدارة للجمعيات حال وجود أي من الموظفين المستنكفين بين الأعضاء"، مشيراً إلى أنه صدر "بعد الإطلاع على القانون الأساسي المعدل لسنة 2005 وقانون الخدمة المدنية رقم 4 لسنة 1998 ولوائحه التنفيذية وقانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطيني رقم 8 لسنة 2005، وبناء على الصلاحيات المخولة قانوناً ووفقاً لمقتضيات المصلحة العامة وسير العمل".
عدم ممانعة
وكانت وزارة الداخلية في غزة قد طالبت أيضاً أبناء الأجهزة الأمنية السابقة والموظفين المستنكفين عن العمل بالحصول على عدم ممانعة من مكتب تسجيل المسافرين قبل التسجيل للسفر عبر معبر رفح في مكتب التنسيق الخاص بذلك، معلنة في بيان لها عن افتتاح مكتب تسجيل للمسافرين في مجمع أبو خضرة الحكومي وسط مدينة غزة وذلك ضمن ترتيبات جديدة قامت بها الوزارة لتسهيل سفر المواطنين من قطاع غزة.
ودعت في حينه الراغبين في السفر عبر معبر بيت حانون (ايرز) التوجه للمكتب للحصول على تصريح مرور قبل 3 أيام من موعد السفر، حيث يقوم المكتب بترتيب عملية سفر المواطنين من أصحاب التحويلات المرضية من وزارة الصحة والتجار ومندوبي الشركات دائمة الحركة من غزة للضفة الغربية.
الغصين: المستنكفون غير مؤهلين لخدمة شعبهم
بدوره دافع الناطق باسم وزارة الداخلية في غزة إيهاب الغصين، عن قرار وزير الداخلية فتحي حماد، حظر انتساب "المستنكفين عن العمل"، قائلاً: "إن القرار جاء نتيجة عدم أهلية المستنكفين لأن يتقلدوا مناصب خيرية وتطوعية في ظل خيانتهم للأمانة وتقاضي رواتب دون العمل بمقتضاها".
وأضاف الغصين: "إن المستنكفين ليسوا أهلاً لأن يكونوا جزءاً من مؤسسات الشعب الفلسطيني أو يُقلدوا مناصب فيها"، مشدداً على أنهم "خانوا الأمانة التي ائتمنوا عليها حيث أصبحوا غير مؤتمنين على أمور مجتمعية تطوعية".
وأوضح أن المستنكفين تخلوا عن وطنهم وعن أبناء شعبهم وهم في أكبر أزمة، في محاولةٍ منهم لـ"الانقلاب على الحكومة والشرعية في غزة"، مشيراً إلى أن كل "من استنكف عن عمله هو غير مؤهل لأن يكون في أي مسؤولية مجتمعية، أو أن يخدم أبناء شعبه الذين تركهم وهم في حاجة إليه".
واستنكر دفاع المؤسسات الحقوقية عن المستنكفين والوقوف إلى جانبهم، وعدم إبداء أي شجب تجاه "استنكاف الأطباء، والمعلمين، وأبناء الأجهزة الأمنية، ومطالب السلطة في رام الله لموظفي قطاع غزة بالتوقف عن العمل مقابل الاستمرار في مقاضاتهم رواتبهم"، قائلا:" الأولى للمؤسسات الحقوقية أن تقف في وجوه المستنكفين وتطالبهم بالعودة إلى عملهم، ونبذ قرارات سلطة رام الله الداعية إلى الاستمرار بالاستنكاف".
وأشار إلى أن الفلسطينيين في القطاع يعيشون "حالة مقلوبة" نتيجة لما وصفه بقرارات السلطة "العقيمة"، مستغرباً من مقاضاة الراتب لمن يجلس في بيته، وقطع راتب من يذهب للعمل، محملاً المؤسسات مسؤولية الدفاع عن حقوق المستنكفين، وتجاهل المواطنين الذين تضرروا نتيجة الاستنكاف.
أبو شمالة: قرار المنع يحمل مخالفة واضحة للقانون الأساسي
وفي سياق متصل، أوضحت مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان على لسان مديرها خليل أبو شمالة، أنها اطلعت باستغراب واستهجان شديدين على نسخة من القرار رقم 48 لسنة 2010 الصادر بتاريخ 11/07/2010، مضيفاً أنه "على ما يبدو أن هذا القرار جاء استكمالا لجملة القرارات التي صدرت في الآونة الأخيرة عن وزير الداخلية المقالة، إذ كان أصدر بتاريخ 9 شباط الماضي قرارا يمنع جميع موظفي الحكومة من العمل في أية وظيفة أخرى سواء بأجر أو دون أجر أثناء الدوام أو بعد الدوام إلا بعد الحصول على إذن مسبق من مرجعه الوظيفي".
وأكد أبو شمالة أنه يرى أن هذا القرار "يحمل مخالفة واضحة للقانون الأساسي الفلسطيني والقوانين الفلسطينية ذات العلاقة، وتمييزاً مرفوضاً باعتباره صورة من الصور والتداعيات الخطيرة لحالة الانقسام السياسي، فضلاً عن كون القرار يتضمن إنكاراً لحق شريحة كبيرة من المواطنين في حريتهم في تشكيل الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية والانضمام إليها"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن مضمون القرار يتجاوز مبادئ ونصوص القانون الأساسي الفلسطيني الذي أكدت المادة (26) منه أن "للفلسطينيين حق المشاركة في الحياة السياسية أفراداً وجماعات، ولهم على وجه الخصوص حق تشكيل الأحزاب السياسية والانضمام إليها وفقاً للقانون، وحق تشكيل النقابات والجمعيات والاتحادات والروابط والأندية والمؤسسات الشعبية وفقا للقانون".
وشدد على أن هذا القرار وغيره من القرارات "غير دستوري ومخالف للقانون الأساسي، كونه يقوم على فرض قيود غير مبررة لم يأت ذكرها في قانون الجمعيات الخيرية، وذلك عندما منحت وزارة الداخلية المقالة نفسها صلاحيات لا تملكها بالأساس، إذ إن الجهة المكلفة قانونا بتطبيق قانون الخدمة المدنية هي ديوان عام الموظفين، والجهة المكلفة بمراقبة العمال في الجمعيات الأهلية هي وزارة العمل".
وقال أبو شمالة: "إن تأسيس القرار على قانون الخدمة المدنية رقم 4 لسنة 1998 ولوائحه التنفيذية هو تأسيس ليس في محله، إذ جاء قانون الخدمة المدنية خالياً من أي نص يقيد الموظف العمومي من التطوع في الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية، كونه لا يمكن اعتبار تقلد مناصب إدارية في مجالس إدارة أو الانتساب للجمعيات العمومية أو العمل الطوعي في الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية وظيفة أخرى، بل مساهمة طوعية من عدد من المواطنين لتحقيق أهداف مشروعة تهم الصالح العام دون استهداف جني الربح المالي بهدف اقتسامه بين الأعضاء، أو لتحقيق منفعة شخصية، وفقاً للتعريف الوارد في قانون الجمعيات رقم 1 لسنة 2000".
إبراهيم: المشهد الفلسطيني كارثي
وفي السياق ذاته قال الكاتب مصطفى إبراهيم، "إنه لا يخفى على أحد أن المشهد الفلسطيني كارثي، وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة ، والكل الفلسطيني مجرم في حق الناس الذين يدفعون الثمن في كل تفاصيل حياتهم، ولا يعرف الناس من أين يتلقوا الضربات، سواء من الحكومة في رام الله أو من الحكومة في غزة.
وأضاف إبراهيم "إن الحديث عن هموم الناس ومشاكلهم طغى على القضية الفلسطينية، والهم الأكبر الاحتلال واستمراره، كما أننا في ظل المشهد الكارثي هذا، ننسى قضيتنا وهمنا الكبير والتهديدات الإسرائيلية المستمرة في شن عدوان على قطاع غزة، ونخوض في تفاصيل وهموم الناس، من بدء الحكومة في غزة باستدعاء عدد من موظفي السلطة "المستنكفين"، عن العمل وإجبارهم على ترك أعمالهم، والتوقيع على تعهد بعدم ممارسة أي عمل إضافي، أو قضية أزمة التيار الكهربائي المستمرة والمتفاقمة، ولا أحد يعطي بالاً لما يجري، أو غيرها من الهموم والقضايا التي أصبحت رئيسية في حياة الناس".
وأشار إلى أن المريض والطالب والمواطن العادي وحتى الموظف المستنكف نفسه، هم الضحايا الجدد لمثل هذه الإجراءات التي تبطن بأهداف سياسية بعيداً عن أي طابع نضال مطلبي، نقابي أو حتى مهني، وهو ما ينفي الأهداف الأساسية لممارسة أي شكل من أشكال العمل النقابي لتحقيق الإنصاف والعدالة في القضايا النقابية المطلبية، موضحاً أن الأطباء المستكفين عن العمل والمشاركون في الإضراب وصلوا في يوم من الأيام إلى حد الاختفاء عن الأنظار، وإغلاق هواتفهم النقالة، ووضع لافتات أمام عيادتهم الخاصة، كتب عليها "العيادة مغلقة لدخول شهر رمضان المخصص للعبادة"، كونهم تلقوا تهديدات سواء من وزارة الصحة في رام الله بعدم العودة إلى أعمالهم وإلا قُطعت رواتبهم، وتهديدات من حكومة غزة بأن على كل طبيب مضرب إغلاق عيادته الخاصة، وإن أقدم على فتحها سيقع تحت طائلة المسئولية، بالإضافة إلى تهديد أي مؤسسة خاصة تقوم بتشغيله.
وحذر إبراهيم من خطورة الانعكاسات الكارثية للإضراب الحاصل في قطاعي التعليم والصحة حتى الآن، مؤكداً في الوقت ذاته على أن الإضراب ليس "مطلبياً ولا مهنياً ولا نقابياً".
زيادة: العمل هو جزء من الهوية الذاتية للإنسان
الأخصائي النفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية حسن زيادة، قال إن العمل هو تعبير عن الدور الذي يقوم به الإنسان في الحياة والمجتمع ومصدر دخل مادي، بالإضافة إلى أنه دور مجتمعي مهم, كذلك العمل هو جزء من الهوية الذاتية للإنسان بذكر مهنته, وبالتالي فالعمل كقيمة وكجزء من التواصل يجعل الإنسان يشعر بالرضا عند قيامه بالدور من خلال وظيفته أو المهنة التي يقوم بها.
وأشار زيادة إلى أن ظاهرة الاستنكاف في غزة أثرت سلباً على بعض الموظفين على المستوى الفردي، حيث شكلت عامل ضغط بالإضافة للعوامل الضاغطة الأخرى في قطاع غزة, فالشخص المستنكف يشعر بعدم التقدير لذاته، ويشعر بنوع من الإحباط والغضب الذي في كثير من الأحيان يصعب عليه التعبير عنه بشكل مباشر، مما يكون له مردود سلبي على الأفراد الذين يتواصل معهم، ويكون له انعكاسات سلبية ومشاكل في عملية الاتصال والتواصل مع الأسرة والزوجة والأولاد والتي يتم التعبير عنها من خلال نوبات العصبية والعنف اللفظي والتجنب.
وأكد أن استنكاف بعض الموظفين عن عملهم قد أثر على بعض الأدوار التي يقومون بها داخل الأسرة، فالموظف الذي يقوم بعمله الآن بشكل اعتيادي، يخرج من بيته ويقوم بمهمة أو عمل ما, أما المستنكف يقضي معظم وقته بالبيت, مما يؤدي إلى نوع من الحساسية في علاقته مع من حوله, وكذلك في بعض الأحيان يتساءل الأطفال عن عدم ذهاب الأب إلى العمل, فإذا كانوا لا يدركون الأسباب وراء عدم ذهاب الأب إلى عمل، فهذا يؤثر على نظرة الأولاد والزوجة إلى الأب بشكل سلبي، وهنا الأب لا يصبح القدوة في الدور الذي من المفروض أن يقوم به.
وأضاف زيادة، كذلك فإن عدم خروج الأب للعمل، قد يؤدي إلى وجود نوع من الحساسية لدى الأبناء في الحديث عن استنكاف آبائهم، وكذلك الأمر في البيت يصبح أكثر حساسية على مستوى العلاقة داخل الأسرة, ومن هنا يبدأ الأب في البحث عن دور داخل البيت، مما يدخله في تفاصيل الحياة اليومية ودور الزوجة داخل البيت، ويكون هذا الأمر أكثر تأثيراً إذا كان غير موجود سابقاً، مما يؤدي إلى نوع من التوتر في العلاقات، وأحياناً الشعور بالإحباط والغضب، ويمكن التعبير عنه من خلال ظهوره على شكل شكاوى جسدية كالصداع والقولون العصبي والإمساك والشعور بالتعب والإنهاك الجسدي، إضافة إلى بعض المشاعر السلبية مثل الاكتئاب، وهذه جميعها ليست ذات منشأ عضوي, مما يؤدي إلى سوء استخدام بعض الأدوية للتقليل من حدة الآلام أو المشاكل الجسدية أو المشاعر السلبية، وهذه الأدوية قد تؤدي إلى نوع من الإدمان.
وذكر أنه بسبب وقت الفراغ الطويل الذي يقضيه بعض هؤلاء الأشخاص المستنكفين، يلجئوا إلى استخدام وسائل التكنولوجيا كالانترنت والصحون اللاقطة "الستلايت" بشكل سلبي، ونجد البعض يقضي ساعات طويلة خلال ساعات الليل باستخدام هذه الوسائل، مما يؤدي إلى حدوث مشاكل اجتماعية وأسرية نتيجة لاستخدام هذه الوسائل بشكل خاطئ، وكذلك تصبح دورة الحياة فيها خلل، حيث يصبح النهار ليل، والليل نهار، الأمر الذي يكون له تأثير سلبي على عملية التواصل السليم داخل الأسرة.
وأوضح زيادة أن هناك بعض الأشخاص المستنكفين عن العمل يعيشون حالة من القلق والخوف بشكل شهري ودائم على رواتبهم وآلية استمراريتها، وهناك سؤال دائم حول الموضوع ما إذا أتخذ القرار بوقف الرواتب، أو إذا كانت هناك متغيرات على المستوي السياسي قد تؤثر في موضوع الرواتب، الأمر الذي له تأثير سلبي على الفرد والجماعة، مبيناً أن الاستنكاف هو إهدار لخبرات وقدرات الكثير من الأفراد الذين يعتبرون طاقة بناء داخل المجتمع, وهذه الطاقة يتم إهدارها وبالتالي تصبح سلبية وعالة على المجتمع مع استمرار هذا الواقع، الأمر الذي يترك تأثيرات نفسية صعبة على هؤلاء الأشخاص وانتمائهم، وكذلك فقدان المعرفة والمهارات المتعلقة بمهنهم.
وبيَّن زيادة أن هناك بعض من هؤلاء المستنكفين الذين حاولوا استثمار هذه الفترة في تنمية قدراتهم من خلال إكمال تعليمهم، والبعض استغلها في تحسين دوره داخل الأسرة من خلال الاتصال والتواصل بشكل أفضل مع الزوجة والأولاد، وبالتالي أصبح هناك نوع من المشاعر الإيجابية من خلال استثمار وقت أطول مع الزوجة والأولاد، مقدماً النصح للمستنكفين بالتقليل من الآثار السلبية الناتجة عن عدم قيامهم بالأعمال المطلوبة، وذلك من خلال الاهتمام بالصحة الجسدية، والاهتمام بتنمية الهوايات والمواهب، كممارسة الرياضة والقراءة والكتابة, واستثمار الوقت في تعزيز شبكة العلاقات والمساندة الاجتماعية.
ونصح بأن يكون هذا الملف ولأنه خارج إطار قدرة الأفراد لإيجاد حلول له، بضرورة أن يأخذ اهتمام وأولوية في المستويات العليا داخل المجتمع الفلسطيني على مستوى المؤسسات الأهلية والرسمية, بهدف إيجاد حلول إبداعية للاستفادة من هذه الطاقات المبددة والمهدورة داخل المجتمع، مما يكون له انعكاسات سلبية على كافة المستويات, بعيداً عن الاجترار للأسباب والأحكام السياسية.
شراب: الموظف المستنكف، أصبح يعيش ما بين الاعتبارات الإنسانية الذي تحكمه أكثر من الاعتبارات السياسية
من جهته اعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة الدكتور ناجي شراب أن الموظف المستنكف، سواء كان مدرساً أو طبيباً، أصبح يعيش ما بين الاعتبارات الإنسانية الذي تحكمه أكثر من الاعتبارات السياسية، وبالتالي لا يفترض أن تسيس الصحة ، أو أن يسيس التعليم لأهداف سياسية، قائلاً : "الأمر الآخر الذي لا يمكن تصوره من لا يلتزم بالإضراب يفصل من عمله، ويقطع راتبه، والسؤال من الذي يفصل ويقطع الرواتب هل النقابة أم الحكومة أم السلطة؟، وحسب قراءته للقانون الأساسي لا يوجد في قانون الإضرابات نص قانون يقول أنه من لا يلتزم يفصل من عمله ويقطع راتبه".
وأكد شراب أن قرارات الفصل، وقطع الرواتب، هي قرارات غير أخلاقية وغير إنسانية، وهي تستخدم لأغراض سياسية، موضحاً أن الإضرابات في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها قطاع غزة من الحصار والتضييق عليه ونقص في الخدمات، يأتي في ظروف سياسية غير مناسبة، ويزيد من فجوة الخلافات بين الطرفين الفلسطيني.
وتابع:" للأسف الشديد سوف يترتب على إضراب الموظفين على اختلاف وظائفهم، سيما الأطباء على وجه التحديد، تراجع في الخدمات الصحية ووفاة عدد من المرضى، وبالتالي أمر غير مقبول إنسانياً وينفي الهدف الحقيقي من الإضراب، الأمر الثاني مسألة التعليم، عدم ذهاب الطلاب إلى المدارس دون أن يتلقوا حصصهم في يومهم الدراسي".
واستدرك :" هذه الأمور من الناحية الإنسانية ومن الناحية الوطنية أمور غير مقبولة، وهي تسعى لتحقيق أهداف غير الأهداف المعلنة، وينبغي عدم تسيس قطاعي الصحة والتعليم، وأن تترك الأمور بقدر من هامش الحرية، وإذا كانت هناك خلافات يمكن أن تسوى على مستوى السلطة ذاتها أو الحكومة، دون زج الأطباء والمعلمين في هذه المناكفات السياسية التي تزيد من حالة الانقسام الداخلي".
Website
Major Sector