في الذكرى الثامنة لرحيلها " فدوى طوقان شاعرة الحرية والتحرير "... كتاب جديد للكاتب علي خليل

من كتيبات يعدها المنتدى التنويري للجيل الجديد ليتعرف على مفكري الوطن والأمة والإنسانية.

نابلس - "القدس" من عماد سعاده - تصادف هذه الايام الذكرى السنوية الثامنة لرحيل شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، ففي الثاني عشر من كانون اول 2003 ودعت الشاعرة الكبيرة الدنيا، وفاضت روحها الى بارئها عن عمر ناهز 86 عاما، قضته في رحلة جبلية صعبة.

وقد صدر حديثا كتاب "فدوى طوقان: شاعرة الحرية والتحرير" للكاتب الفلسطيني المعروف علي خليل حمد، والذي اصدره بالتعاون مع المنتدى التنويري الثقافي (تنوير)، وجامعة النجاح الوطنية ووزارة الثقافة.

ويقول الكاتب حمد بان "موضوع هذا الكتاب، فهو ليس حديثا عاما عن فدوى طوقان، كما أنه ليس نقدا أدبيا لإنتاجها الشعري أو النثري، وإنما اختصّ الكتاب بتبيان القيم والاتجاهات التي وجهت فكر فدوى وكتاباتها وسلوكها، كما يلمح القارئ الكريم من عنوان الكتاب نفسه: "فدوى طوقان: شاعرة الحرية والتحرير"، وهماـ أي الحرية والتحريرـ قيمتان أساسيتان، وربما القيمتان الأساسيتان، الموجهتان لإنتاجها الفريد.

ويروي الكاتب حمد في مقدمة كتابه السيرة المختصرة لحياة شاعرة فلسطين، فقد ولدت فدوى عبد الفتاح طوقان في مدينة نابلس عام 1917، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة الفاطمية أوّلا، ثم العائشية من بعد؛ ولم تتجاوز مدة دراستها خمس سنوات، إذ حرمها بعض أهلها من مواصلة تعليمها، وفرضت عليها الإقامة الجبرية في المنزل.

انضافت هذه المعاناة لدى الطفلة فدوى إلى معاناتها السابقة من اعتلال صحتها وجفاء أهلها لها، فغلبتها الوحشة على نفسها واستبدت بها الكآبة إلى أن عاد شقيقها إبراهيم من الجامعة الأميركية ببيروت، فرق قلبه لها، وحنا عليها كما يحنو على الأخت الأخ، وعلمها قواعد الشعر والنحو والبلاغة؛ وعندما لمس لديها الحسّ الموسيقيّ المرهف، شجعها على كتابة الشعر، وكان نجاحها في ذلك باهراً، أثار دهشة معلمها وغيره من شعراء ذلك العهد.

في ثلاثينيات القرن الماضي، كتبت فدوى طوقان قصائد متينة السبك مقلدة كبار شعراء العصر العباسي، وبعثت بها إلى المجلات الأدبية في القاهرة وبيروت موقعة بأسماء مستعارة، فقبلتها بصدر رحب مما عزز ثقة فدوى بشعرها، ومن ثم بنفسها.

وفي عام 1941 توفي إبراهيم، وكان حزنها عليه شديدا، وفيه كتبت أول كتبها وهو "أخي إبراهيم"؛ وبموت إبراهيم عادت فدوى تعيش مرة أخرى دون ظهير في مواجهة العزلة والحرمان، إلا من الشعر الذي رافقها إلى آخر أيام حياتها.

استلزم الأمر بعد وفاة إبراهيم أن تعتمد فدوى على نفسها في اختيار ما تقرؤه من شعر، بحيث يلبي حاجاتها النفسية في الحب والحرية، فوجدته في شعر المهجر ولاسيما عند إيليا أبي ماضي، وفي شعر مدرسة أبولو وبخاصة عند علي محمود طه؛ وما من شك في أن ديوانها الأول "وحدي مع الأيام" ( 1952) قد تأثرت قصائده بدرجة كبيرة بهؤلاء الشعراء الرومانسيين في مضامينه وأشكاله جميعا، وقد حظيت أشعار فدوى الرومانسية هذه بالإعجاب والثناء من قبل بعض هؤلاء الشعراء ومن النقاد أيضا، وكانت بينهم وبسين فدوى طوقان مراسلات متبادلة وبخاصة مع الناقد المصري أنور المعداوي.

بعد وقوع نكبة فلسطين عام 1948 ، وتهجير مئات الآلاف من عرب فلسطين من بيوتهم وممتلكاتهم، ساء الوضع الاقتصادي وزاد تفاقمه سنوات المحل في أوائل الخمسينيات؛ وأدى ذلك إلى ضرورة مشاركة المرأه الفلسطينية الرجل في العمل وصنع القرار في العائلة؛ وقد أتاح هذا للمرأة قدرا من التحرر انعكس في انتشار ظاهرة السفور وحرية التنقل خارج المنزل؛ وأصبح بوسع شاعرتنا المشاركة في الندوات والاجتماعات الثقافية التي شهدتها بعض مدن الضفة آنذاك.

خلافا لديوان "وحدي مع الأيام" الذي هيمن عليه الإحساس بالعزلة والكآبة العميقة، كان ديوانها الثاني "وجدتها" (1956) مختلفا تماما، هللت فيه لما تحقق لها من حب وحرية؛ وكذلك امتاز الديوان بغلبة شعر التفعيلة الذي أصبح الشكل السائد في شعرها منذئذ.

وفي عام 1960 صدر ديوانها "أعطنا حبا" الذي أعلنت فيه خيبتها من تجارب الحب السابقة؛ وقد تكون هذه الخيبة أحد العوامل التي حفزتها على السفر إلى إنجلترا لدراسة الأدب الإنجليزي هناك عام 1962 .

قد يمكن القول إن فدوى طوقان وجدت نفسها مرة أخرى في رحلتها هذه، ففي الفصل الذي كتبته في مذكراتها "رحلة صعبة رحلة جبلية" عن إقامتها في أكسفورد بإنجلترا، يجد القارئ فرحا غامرا ينبثق من كل سطر فيه، ليملأ حواسه وقلبه وروحه جميعا.

ولكن الدهر الذي يسرّ بعض الناس أحيانا، لا بد أن يتبع ذاك السرور بغصة أليمة كما يقول سيد الشعراء، وقد كانت هذه الغصة عند فدوى موت شقيقها نمر في حادث سقوط الطائرة التي أقلّته مع إميل البستاني في عرض البحر.

وفي رثاء شقيقها نمر كتبت قصيدتها الحزينة الغاضبة "أمام الباب المغلق" التي جعلتها عنوانا لديوانها الصادر عام 1968 .

بعد رجوع فدوى من إنجلترا إلى نابلس، عملت على تحقيق حلمها القديم بالحياة خارج "القمقم الحريمي" أو البيت الأثري، بيت العائلة، الذي ذاقت فيه مرارة الظلم والحرمان، فابتنت بيتا صغيرا في مكان ناءٍ عن مباني المدينة "على الطرف الغربي من حضن جبل جرزيم"، وأحاطته ببستان جميل زرعت فيه شتلات السرو والصنوبر بنفسها، وتعهدتها برعايتها إلى أن كبرت وأصبحت موئلا للطيور.

لم تكد فدوى تهنأ بالعيش المستقل في بيتها الجديد، وتستمتع بحديقته الغضة، وتشرع في رسم لوحاتها الشعرية التي تستعيد بها ذكريات سعادتها في رحلتها العذبة، حتى أخذت العاصفة الهوجاء تزمجر في الأفق مع إطلالة عام 1967.

ولقد كان وقع هزيمة حزيران عام 1967 واحتلال الضفة، شديدا بالغ الشدة في نفس فدوى طوقان، فقد تحولت من شاعرة إلى شاعرة أخرى مختلفة تماما، تحولت من شاعرة يغلف روحها ضباب الهم الخاص إلى شاعرة تكاد تضيء نار الهمّ العامّ بين جوانحها، كما أراد لها أخوها المناضل اليساري رحمي طوقان، وكما أراد لها شعراء اليسار الفلسطيني: درويش والقاسم وزيّاد وغيرهم.

في الأعوام القلائل التي أعقبت احتلال 1967، أصدرت فدوى ديوانها "الليل والفرسان"، وفيه تشير كلمة الفرسان إلى الشهيد مازن أبو غزالة ورفاقه، وديوان "على قمة الدنيا وحيدا" الذي يشير إلى الشهيد وائل زعيتر الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في روما عام 1972. وقد أودعت فدوى هذين الديوانين درر أشعارها حول الفدائيين والشهداء والأسرى وموضوعات أخرى ذات صلة بمقاومة الاحتلال.

وفي عام 1985 صدر الجزء الأول من مذكراتها بعنوان" رحلة صعبة رحلة جبلية"، وهو عبارة عن سيرة ذاتية تغطي الفترة الممتدة بين سنة مولدها وما قبل حزيران 1967، ويشتمل الكتاب، فضلا عن مجريات حياتها، على وصف وجيز للأحوال الاجتماعية والسياسية في نابلس بوجه خاص وفلسطين بوجه عام. وقد تميز الكتاب بالصراحة والجرأة في عرض الحياة الخاصة للشاعرة، وحاز على التقدير والإعجاب من قبل القراء والنقاد، وفيه يقول سميح القاسم :

"منذ أيام الراحل العظيم طه حسين، لم تبلغ سيرة ذاتية ما بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في العبارة."

وفي عام 1987 صدر ديوانها "تموز والشيء الآخر"، وفيه عاد الهم الخاص للبروز إلى جانب الهم العام، فتجد فيه قصيدة الطفلة الشهيدة لينا النابلسي إلى جانب قصيدة "مراهقة"، وقصيدة "النورس ونفي النفي" المهداة إلى أرواح الشهداء دلال المغربي ورفاقها إلى جانب "مبارك هذا الجمال والعذاب".

وتمر سنوات الانتفاضة التي كتبت فدوى فيها قصيدة "شهداء الانتفاضة"، حتى إذا جاء عام 1993 صدر الجزء الثاني من مذكراتها بعنوان "الرحلة الأصعب"، وهو يغطي السنوات القليلة التي أعقبت عام 1967، ويتحدث عن نشاط فدوى السياسي والثقافي الوطني المقاوم للاحتلال، وعن العلاقة الحميمة بينها وبين الشعراء من عرب 48، وأخيرا وليس آخرا قصيدتها الغاضبة "من صور الاحتلال الصهيوني آهات أمام شباك التصاريح"، وفيها تصف كيف شتمها ومن معها الجندي الهجين بقوله: "عربٌ فوضى , كلاب ..."

وفيها تقول :

ألفُ هندٍ تحتَ جلدي

جوعُ حقدي

فاغرٌ فاهُ سوى أكبادِهم لا

يُشبعُ الجوعَ الذي استوطنَ جلدي

وقد وجد غلاة الشوفينيّين من اليهود في هذه القصيدة الفرصة لمهاجمة فدوى ومعاقبتها بادّعاء أنها تحرض على سفك الدم؛ وسرعان ما ردت فدوى بأنْ طالبتهم بقراءة قصيدة باركوخبا، لشاعرهم المفضل حاييم بياليك، التي لم يجدوا حرجا في قراءتها ونشرها، وفيها دعوة صريحة إلى شرب دم الأعداء.. ولم تعدم فدوى مدافعين عنها من قبل بعض الشعراء والكتاب في اليسار اليهودي؛ وتشغل رسائل هؤلاء وردود فدوى على تلك الرسائل التي يتغلب فيها الجانب الإنساني على التعصب القومي ـ تشغل حيّزا كبيرا من هذا الجزء من المذكرات.

في عام 2000، صدر الديوان الأخير لفدوى طوقان، وهو ديوان صغير بعنوان "اللحن الأخير"، يتضمن بضع قصائد ومقطوعات، تبرز فيها تساؤلات فدوى وتأملاتها في موضوعاتها الأثيرة: الحب، والحياة، والحرية، التي شكلت جُلّ اهتمامات فدوى طوقان في تجاربها السابقة.

ويتناول الكاتب حمد في فصول الكتاب القيم في ادب فدوى طوقان، متطرقا الى: البيئة والشعر، الطفولة، الحرية، الوطن (التحرير)، الحصار (السجن الكبير)، الشهداء، الاسرى، الحياة، الحب، فترة الكبت، فترة التوهج والخفوت، فترة التصعيد والذكريات، الاخر، المرأة، العربية، الشاعرة، اليسارية، الفلسطينية والفكر التنويري.

ويختتم الكاتب حمد كتابه بفصل الفكر التنويري في حياة فدوى طوقان، مشيرا الى ان من الملامح المميزة والمهمة للمفكر التنويري سواء أكان ليبراليا أم يساريا أم مختلفا عن هذا وذاك، تحليه بالعقلانية في الفكر والسلوك، وانفتاحه على الآخر في سعيه من أجل الوصول إلى الحقيقة وترقية الذات والمجتمع .

من تجليات العقلانية في فكر فدوى طوقان ما نجده في كتابها "رحلة صعبة رحلة جبلية" من رفض متكرر للخرافات والتقاليد البالية في المجتمع النابلسي في إبان طفولتها (ص ص.42-47) ، وكذلك الإشادة بالعلم واعتباره هو والفن جانبين من أعظم جوانب النشاط الإنساني التي عرفتها الحضارات ( ص 227) ، ودعوتها إلى تبني الموضوعية في الفكر، وذلك في "الرحلة الأصعب" ( ص ص. 143-145).

ويتبين الانفتاح على الآخر عند فدوى طوقان في مختلف الإحالات إلى أفكار الآخرين من فلاسفة ومفكرين في مذكراتها، وفي علاقاتها الوثيقة مع أدباء وكتاب، ذكور وإناث، فلسطينيين ويهود غير صهاينة وغيرهم، والتي تجلت في"الرحلة الأصعب"بوجه خاص، في حوارات وخطابات متبادلة يهيمن عليها التوجه الإنساني العميق من كلا الطرفين. ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أن الكثرة الكاثرة من تلك الشخصيات هي ذات توجهات يسارية؛ ويعني هذا التوجه المقترن بإيمانها بدور الجماهير المهم في صنع الانتفاضات والتاريخ كما صرحت عنه في عدة مناسبات ـ يعني أن التنوير لدى فدوى طوقان هو تنوير يساري بالرغم من بعض الملاحظات التي عبرت فيها عن إعجابها بمناخ الحرية الذي عرفته في أثناء دراستها في أكسفورد بإنجلترا.

ومن أبرز تجليات الفكر التنويري لدى فدوى طوقان أيضا عرضها الدقيق والشامل للتمييز في النوع الاجتماعي الذي عانته أشد المعاناة في أسرتها، ولرفضها التام لذلك التمييز في بلدها وخارجه، حتى إنها أخذت على المجتمع الإنجليزي تقصيره عن تحقيق المساواة التامة بين الجنسين في مختلف ميادين الحياة.

Governorate
Major Sector

href="http://statcounter.com/" target="_blank"> class="statcounter"
src="//c.statcounter.com/7777687/0/e4135b25/1/" alt="web
analytics">