الحق في تكوين الجمعيات يندرج في إطار العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 66 وبالتالي فهو جزء لا يتجزأ من تلك الحقوق ، مثل " الحق بالتجمع السلمي والعمل الحزبي والنقابي والإعلام والصحافة والرأي والتعبير " ، تلك الحقوق التي تعتبر أحد المرتكزات الهامة لأي نظام ديمقراطي ، وهي حقوق أصيلة أقرها المجتمع الدولي وليس منه أو منحه من أي نظام من الأنظمة، وقد جاء نتاجاً لنضالات طويلة قامت بها القوى الاجتماعية المعبرة عن قطاعات واسعة من المجتمع وباتجاه إرساء أسس سيادة القانون وضمان الفصل بين السلطات وتحقيق القضاء العادل والنزيه والمستقل ، تلك الأسس التي تعبر عن مضمون النظام الديمقراطي والتي تكتمل فقط إذا أضفنا الحفاظ على الحريات العامة واحترامها وضمان حقوقها بما في ذلك الحق في تكوين الجمعيات.
رغم الإقرار الدولي بهذا الحق إلا أن العديد من الأنظمة وخاصة في بلدان ما يسمى بالعالم الثالث لا تحترم هذا الحق وتمارس نظاماً شمولياً يقوم بالحد منه أو إلحاق التكوينات الاجتماعية بتشكيلاتها الأهلية أو النقابية في بنية النظام مع الإبقاء على شكل مظهري من التعددية السياسية ليس إلا في ظل سيطرة النظام ببنيته الطبقية والاجتماعية على مقومات السلطة والثروة على حساب السواد الأعظم من الفقراء والمهمشين.
لذلك فقد قامت تلك الأنظمة وبسب موجة الديمقراطية التي اجتاحت العالم في محاولات للسماح المظهري بتكوين الجمعيات ولكن في ظل قوانين وتشريعات مقيدة تؤدي إلى إلغاء مبدأ استقلالية تلك الأطر ذات الترابط الاجتماعي الوثيق مع الفئات الاجتماعية التي تمثلها أو تقدم لها الخدمات ، الأمر الذي سيقود إلى التعبير عن مصالح تلك الفئات المهمشة والمضطهدة في مواجهة سياسات النظام المبنية على الاستحواذ والسيطرة والتمييز والاحتكار .
إن نظرة سريعة على طبيعة القوانين التي تنظم العلاقة ما بين أنظمة الحكم بالعديد من بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية وبين المنظمات الأهلية وغير الحكومية يعكس مدى المركزية الشديدة التي يتضمنها القانون الذي يهدف إلى الحد من استقلالية تلك المنظمات أو إلحاقها بالبنية الإدارية للسلطة أو تهميشها وأضعافها.
لقد حاولت السلطة الوطنية بعد تأسيسها عام 1994 العمل على الحد من استقلالية وحرية العمل الأهلي عبر سلسلة من الإجراءات الإدارية المعيقة لها، علماً بأن تلك المنظمات لعبت دوراً رئيسياً إبان الانتفاضة الأولى فيما يعرف باسم التنمية من اجل الصمود والمقاومة، كما أكدت بأنها ستقوم بدورها في تحقيق التنمية من اجل البناء بعد تأسيس السلطة ، وبروز تشكيلات دولانية " وزارة ، مجلس تشريعي ، قضاء ".
وقد قامت بهذا الدور حقيقة من خلال قدرتها على التأثير بالسياسات والتشريعات المعبرة عن حقوق الفئات الاجتماعية المهمشة " المرأة ، الشباب، العمال، المزارعين " أو باتجاه الحد من أدوات وآليات الاستبداد ومن خلال رفضها لمحكمة أمن الدولة وللاعتقال السياسي ولتحديد آلية العمل مع المنظمات الأهلية والنقابية بمنظور سياسي فئوي وليس مهني وقانوني ، كما قاومت عمليات التدخل "الفوقي " والبيروقراطي في عمل المنظمات الأهلية ، والتي تعرضت إلى حملة شرسة من التشهير في ذلك الوقت، كما انتصرت لصالح القوى المضطهدة ، حينما تمت عملية إغلاق لثلاثة وعشرين جمعية تابعة لحركة حماس عام 2002 في إطار السياسة الأمريكية التي رفعت شعار " مكافحة الإرهاب " والتي يندرج جزء منها العمل على تجفيف موارد المنظمات الأهلية والخيرية التابعة للحركات السياسية المحددة على أجندة السياسة الأمريكية ، كما ضغط باتجاه اعتماد قوانين تساهم في تعزيز العدالة القانونية مثل القانون الأساسي وقانون استقلال القضاء عام 2002 ،وقد ميزت المنظمات الأهلية ما بين الإصلاح المطلوب وطنياً والذي يعمل على ترتيب البيت الداخلي وتعزيز التماسك الوطني وبين محاولات الإصلاح من قبل الرباعية الدولية التي كانت تهدف للحد من سلطة الرئيس عرفات في ذلك الحين عقاباً له على موقفه الرافض للمقترحات الأمريكية في كامب ديفيد عام 2000، مؤكدة انحيازها للإصلاح الديمقراطي والقانوني الذي يؤسس إلى آليات من الشراكة السياسية والتماسك الداخلي ويحقق من مقومات الصمود في مواجهة الاحتلال والضغوطات الدولية.
لقد دفعت المنظمات الأهلية باتجاه إجراء الانتخابات وفق قانون التمثيل النسبي الكامل ، إلا أن القوى السياسية توافقت بالقاهرة 2005 على القانون المختلط ، وقامت المنظمات الأهلية بتنفيذ العديد من برامج التدريب والتثقيف والتوعية للجمهور باتجاه قانون الانتخابات، كما لعبت دوراً رئيسياً بالرقابة عليها ، تلك الانتخابات النيابية العامة والتي جرت في يناير / 2006 ، والتي اتسمت بالنزاهة والشفافية حسب تقديرات المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية.
قاومت منظمات العمل الأهلي إجراءات اللجنة الرباعية الدولية ،واعتبرت حصارها على الحكومة الفلسطينية التي تشكلت بعد الانتخابات يندرج في إطار ازدواجية المعايير ، ورفضت عروضاً من الدول المانحة لتلقى الأموال بدلاً من الحكومة ،وقامت بحملات رافضة للحصار الذي فرض على شعبنا بسبب خياره الديمقراطي في إطار تأكيدها على ضرورة احترام نتائج عمليات الاقتراع ولمبدأ التداول السلمي للسلطة ، محذرة من مخاطر الاحتقان الناتج عن عدم الإقرار لنتائج الانتخابات.
رفضت المنظمات الأهلية آليات العنف كوسيلة لحل الخلافات الداخلية ، كما رفضت في نفس الوقت وسائل الإقصاء والعزل ، مؤكدة أن الانقسام السياسي سيشكل كارثة على المجتمع الفلسطيني لأن المستفيد منه سيكون الاحتلال وأعداء شعبنا فقط ، داعية إلى الحوار والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية.
بعد الانقسام السياسي والجغرافي الذي حدث نتاج لأحداث حزيران / 2007 ، عملت المنظمات الأهلية باتجاه مقاومة النتائج السلبية الناتجة عن حالة الانقسام والذي اندرج ضمن دائرة الفعل ورد الفعل ، فقد رفضت قرار الرئيس عباس القاضي بإغلاق 103 جمعيات أهلية تابعة لحماس بالضفة الغربية ، كما رفضت سلسلة الإجراءات والقيود المفروضة من قبل حكومة حماس تجاه منظمات تابعة بالأغلب لحركة فتح أو يديرها مستقلون، والتي كان أبرزها الاعتداء على حوالي 200 جمعية عام 2008 على خلفية حادث الشاطئ.
لقد كان المتضرر الأكبر من ظاهرة الانقسام مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الإنسانية ، وكانت مسألة الحد من تكوين الجمعيات والتدخل في بنيتها وفي مجالس إدارتها وإصدار إجراءات وقوانين جديدة بحقها تهدف بالدرجة الرئيسية لتحجيمها أو إلحاقها أو تهميشها ، وكانت عمليات المضايقة والانتهاكات تتم على خلفية فئوية سياسية وفي تعدي واضح على مبدأ سيادة القانون.
قامت المنظمات الأهلية بسلسلة من الإجراءات والخطوات باتجاه وضع حد لتلك الممارسات سواءً عبر الإجراءات القانونية كما تم بالضفة الغربية من خلال التوجه إلى المحكمة العليا لمنع تنفيذ قرار حل 103 جمعيات أهلية ورفض المطالبة بإعادة تسجيل الجمعيات المسجلة أو من خلال وسائل المفاوضات والضغط والتأثير ،حيث استطاعت منظمات العمل الأهلي ومنظمات حقوق الإنسان من خلال الاجتماع مع صناع القرار لدى حكومة حماس من استصدار قرار بهدف إعادة افتتاح الجمعيات المغلقة وكذلك إعادة مقتنياتها إلى أصحابها، هذا إلى جانب الإجراءات القانونية من خلال التوجه للقضاء، وقد تحققت بعض النتائج الإيجابية من خلال هذه الجهود.
لقد بدى واضحاً مدى اهتمام المنظمات الأهلية بحماية الحريات العامة وذلك من خلال الحملة التي تم تنظيمها من خلال الشبكة إلى جانب منظمات حقوق الإنسان وبعض القوى السياسية وحيث ساهمت الحملة بتظهير طبيعة الانتهاكات الناتجة عن الانقسام ومنها الحق في تكوين الجمعيات ونظمت سلسلة من الفاعليات والأنشطة من اجل وضع حد لتلك الانتهاكات وضرورة تحييدها عن دائرة المنازعات وبوصفها جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان.
على خلفية أجواء المصالحة واجتماع لجنة الحريات العامة وكذلك على ضوء الربيع العربي الذي يهدف إلى فتح أفق جديد من الحرية والكرامة والعدالة بما يضمن إزالة القيود على منظمات العمل الأهلي والسماح بحرية تكوين الجمعيات فقد بات من الضروري العمل على وقف التعديات على الجمعيات وحقها بالعمل والتكوين وإزالة الغبن الذي وقع عليها على خلفية الانقسام وذلك في كل من الضفة والقطاع.
إن منظمات العمل الأهلي قوة تكاملية مع السلطة في خدمة مصالح المهمشين والفقراء ، كما أنهاة قوة اعتراض على سياسات خاطئة بصورة سلمية وديمقراطية إلى جانب انها قوة اقتراح فيما يساهم في خدمة الخير العام، وأن بديل ذلك يعنى لجوء القطاعات الاجتماعية المتضررة للتعبير عن ذاتها بوسائل الإكراه والعنف بما لا يساهم في خدمة المجتمع أو وحدة نسيجه الداخلي.
لقد آن الأوان للعودة إلى القانون الذي يضمن استقلالية العمل الأهلي ويعطى للسلطة الحق بالرقابة المهنية الرامية للبناء والتطوير ،وتجاوز العقلية الفئوية وكذلك تجاوز الأدوات السابقة التي كانت تستفيد من بعض ثغرات قانونية من اجل السيطرة على المنظمات الأهلية ، فالأصل أن هناك مصلحة وطنية واجتماعية وتنموية لتلك المنظمات ، وإن أية إجراءات تمارس من السلطة يجب أن تراعي تلك المصلحة تحت شعار " دولة قوية مجتمع مدني قوى " ، لأن إضعاف المجتمع المدني لن يقود إلى قوة للدولة أو السلطة الحاكمة بل على العكس تماماً.