أثار تقرير صدر عن مركز "بيسان للبحوث والإنماء"، مؤخراً، وتناول موضوع المساعدات الخارجية للسلطة الوطنية وأثرها على أكثر من صعيد، ردود فعل "مقلقة" إلى حد كبير، خاصة جراء ما قدمه من معطيات لافتة بخصوص انعكاس الدعم الخارجي على الشأن التنموي، والحد من معدلات الفقر، إلى غير ذلك.
وكان من أبرز الأمور التي أظهرها التقرير، أنه رغم ارتفاع نسبة المساعدات الخارجية بنسبة تزيد عن 200% خلال الفترة ما بين 1998-2008، إلا أن الدين العام تضاعف، وازداد الفقر في الأراضي الفلسطينية، مشيرا إلى أنه رغم تلقي دفعات كبيرة من المساعدات، إلا أنها لم تحقق نسب نمو دائمة كحال البلدان التي اعتمدت المساعدات الخارجية كطريق للتنمية المستدامة.
وأضاف: رغم ارتفاع نصيب الفرد من المساعدات الخارجية إلى رقم قياسي، إلا أن ذلك لم ينعكس على ميزانية الخزينة العامة للسلطة، التي تواجه عجزاً متزايداً في سداد فاتورة الرواتب، كما أن تدفق المساعدات الخارجية لم يسهم في الحد من مشكلة الفقر في فلسطين المحتلة.
واعتبر أن "هذا الواقع يعكس غياب قدرة الحكومة على استثمار أموال التمويل الخارجي في مشاريع تنموية حقيقية، ما يفسر بشكل منطقي الأزمات المتكررة في دفع الرواتب، إضافة إلى تقليل الإنفاق على القضايا الاجتماعية".
وأكد أن ارتفاع نسبة المساعدات الخارجية، لم يسهم إيجاباً في تقليل نسبة الفقر، مبينا أن نسبة الفقر مرشحة للارتفاع، طالما بقيت قدرة الفلسطينيين على توظيف المساعدات في تلبية احتياجاتهم الأهم مفقودة، "ففي ظل سياسة المساعدات الجاري العمل بها، يضطر الفلسطينيون إلى صرف 30-40% من الميزانية العامة على الأمن، بينما في الجانب الأخر تنفق حكومة الاحتلال 7ر7% من ميزانيتها العامة على الأمن".
وأورد أنه "حتى مع برامج الإصلاح منذ السنوات الأربع الماضية، لم يكن للسلطة القدرة على توجيه أموال المساعدات، حيث انتقل الأوروبيون من آلية المساعدات المؤقتة إلى "آلية بيغاس"، التي لم تكن فقط آلية لإدارة أموال المانحين مع السلطة، بل نفذت عبرها العديد من المشاريع المباشرة مع الفلسطينيين، وبالتالي هي اقرب إلى حكومة ظل مالية، منها إلى آلية لتنسيق المساعدات، وكذلك الحال بالنسبة للعديد من المؤسسات الأهلية، التي إما وقفت متفرجة أمام مصادرة دورها وعلاقتها بالجمهور، أو أصبح البعض منها يعمل كمقاول ثانوي للمؤسسات الدولية".
وخلص التقرير إلى الدعوة إلى إطلاق حوار داخلي من قبل السلطة، باعتبارها المتلقي الأكبر للمساعدات الخارجية، ومنظمات المجتمع الأهلي، حول طبيعة التمويل الخارجي، والبحث عن جدواه التنموية، ومدى مساعدته للشعب الفلسطيني في تخطي مشكلات الفقر والبطالة، بدل التفكير السائد بخلق فرص عمل محدودة هنا وهناك.
وضع مقلق
وفي معرض تعليقه على هذه المسألة، لم يخف مدير المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية "مواطن" الدكتور جورج جقمان، قلقه مما جاء في التقرير، مضيفا "لا شك أن ما جاء في التقرير يعكس وضعاً مقلقاً".
ويضيف جقمان: ما ورد في التقرير يفرض تساؤلات من قبيل، ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع؟، وحول آلية الإنفاق العام؟، إلى غير ذلك، وهو ما يقودنا إلى أنه في خطة الحكومة هناك إشارة إلى إمكانية تحقيق الاكتفاء الذاتي، لكن كيف يمكن إنجاز ذلك تحت الاحتلال، وفي ظل القيود التي يضعها الاحتلال أمام عملية التنمية كما يؤكد البنك الدولي ذاته.
ويستدرك: إذا كان المقصود تحقيق الاكتفاء الذاتي حسب الحكومة، عن طريق الضرائب، فسيكون ذلك وضعاً مربكاً، إذ كيف لشعب تحت الاحتلال أن يتدبر مصاريفه، وبالتالي فمن الأفضل أن تظل المساعدات، لأنه لا يعقل أن يتحمل الشعب الفلسطيني الأعباء المالية. وهو تحت الاحتلال.
ويتساءل قائلاً: كيف يمكن أن نصل مرحلة الاكتفاء الذاتي، دون رفع الحواجز، وتعديل السياسات الاقتصادية، أما إذا كان المقصود إنجاز ذلك من خلال الضرائب، فمن الأولى أن تتحمل إسرائيل الأعباء المالية لنا كشعب تحت الاحتلال.
ويشير إلى ثقته بعدم إمكانية إحداث تنمية تحت الاحتلال إلا ضمن درجة محدودة، مضيفا "التنمية تأتي من خلال الاستثمار، وهذا يحتاج إلى أن يكون هناك استقرار سياسي، والارتقاء بعملية التبادل التجاري وتوسيع نطاقها، وبالتالي فإن هذا الأمر في حالتنا غير موجود".
وهو يرى أن محاولات السلطة للحد من معدلات الفقر والبطالة غير كافية، مضيفا "ما ينقص السلطة هو عبارة عن رزمة متكاملة من التشريعات، مثل قانون للضمان الاجتماعي، يتضمن مخصصات للبطالة والفقر، إلى جانب تحديد حد أدنى للأجور".
ويردف جقمان: في كل بلدان العالم يوجد حد أدنى للأجور، علاوة على تأمينات اجتماعية، ومما لا شك فيه فإن هناك دوراً مطلوباً من الحكومة بالإنفاق على التأمينات الاجتماعية.
ويبين أن من المسائل التي تفرض نفسها بقوة، موضوع كيفية توجيه موازنة السلطة، لتصبح أكثر استجابة لاحتياجات المجتمع.
الافتقار لسياسة ناجحة
أما رئيس نقابة العاملين في الوظيفة العمومية بسام زكارنة، فيرى أن التقرير يقدم الصورة الحقيقية للواقع المالي الفلسطيني. ويقول زكارنة: التقرير يؤكد ما كنا نطرحه منذ فترة بخصوص عدم وجود سياسة مالية، تستطيع أن تتعامل مع هذه النسبة المرتفعة من الدعم الدولي الذي تضاعف بنسبة كبيرة خلال فترة ولاية الحكومة الحالية.
ويعزو الوضع الذي يسوقه التقرير، إلى عدة أسباب، من ضمنها أن هناك كثيراً من المصاريف الحكومية غير مدروسة، خاصة فيما يتعلق بمكونات الموازنة.
ويقول: هناك حاجة ملحة لإعادة دراسة بنية الموازنة من قبل خبراء، سواء من قبل أساتذة جامعات، أو ممثلي مؤسسات اقتصادية، خاصة أنه تم عمل الموازنة من قبل شخص أو شخصين، ودون عرضها على المجلس التشريعي، والتركيز على نقاط القوة والضعف فيها.
ويستدرك قائلاً: لا يمكن لشخص أو شخصين وضع موازنة للشعب الفلسطيني، وباعتقادي فإنه حتى لو تضاعف الدعم الخارجي بنسبة 400% فستظل هناك حاجة لمساعدات أخرى، لا سيما في ظل تفشي البطالة، وإغلاق السوق الإسرائيلية أمام العمال الفلسطينيين، والممارسات الإسرائيلية لتدمير الاقتصاد الفلسطيني، وإغلاق سوق العمل العربية والدولية أمام العمالة الفلسطينية.
ويقول: الاحتلال يقوم بتدمير البنية التحتية باستمرار، ما يستدعي موازنات مضاعفة يصعب تقديرها.
ويمضي قائلاً: السياسة المالية تنتقل من فشل إلى آخر، ومن وجهة نظري فإن هذا له علاقة بتشكيلة الحكومة، وغياب الكفاءات، وتعطيل المجلس التشريعي، والانقسام، وعدم اعتماد الحكومة مبدأ الشراكة مع المجلس التشريعي، والنقابات، والفصائل.
ويدلل على ما ذهب إليه بحجم مديونية السلطة، ويقدرها بأربعة مليارات دولار، تتوزع بين مليار للبنوك، ومليار ونصف لهيئة التقاعد، ومليار للقطاع الخاص، ونصف مليار عبارة عن مكافآت المتقاعدين، مضافا إليها بعض المصاريف الأخرى.
ويستطرد بقوله: إذا كانت هذه الحكومة قد اقترضت خلال فترة ولايتها الحالية نحو مليار دولار، فأين ذهبت المساعدات.
ويلفت إلى أن الرواتب التي تدفعها الحكومة قد تآكلت بنسبة 29%، مبينا أن الحكومة لم تقدم سوى زيادة بنسبة 9%.
ويختم زكارنة قائلا: نسبة التعيينات لدى هذه الحكومة، لا تشكل سوى 5% من احتياجات المؤسسات الرسمية والوزارات، ورغم ذلك فإن هناك عجزاً.
ركائز سياسة اقتصادية جديدة
أما أمين عام حركة "المبادرة الوطنية"، النائب د. مصطفى البرغوثي، فيرى أن هناك حاجة لتغيير السياسة الاقتصادية في عدة اتجاهات، بما يشمل تقليص حجم الاعتماد على المساعدات الخارجية حتى لا تصبح هذه المساعدات أداة لتقييد الشعب الفلسطيني.
ويقول البرغوثي: المطلوب سياسة اقتصادية تركز على التنمية في كافة أرجاء الضفة الغربية، وليس كما هو حاصل الآن، بسبب طبيعة المساعدات، والشروط والقيود الإسرائيلية التي تفرض تنفيذ المشاريع والعمل ضمن المناطق المصنفة (أ) و(ب)، بعكس القدس والمناطق المصنفة (ج)، وتشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة، وبالتالي فلا بد من دعم صمود المناطق المهمشة والمهددة بالاستيطان، والجدار، إضافة إلى القدس، والبلدة القديمة بالخليل.
ويضيف: يجب تبني بعض المشاريع التي تم إهمالها خلال الفترة الماضية، مثل الصندوق الوطني للطالب المحتاج، وكان أقر القانون الخاص به بالقراءة العامة من قبل المجلس التشريعي قبل ستة أعوام، حيث أن إخراج هذا المشروع إلى حيز النور يمكن أن يساعد بدعم صمود 160 ألف طالب وأسرهم، إلى جانب تعزيز صمود المجتمع، فضلا عن آثاره الإيجابية في تطوير قطاع التعليم.
ويتابع: السياسة الاقتصادية المطلوبة يجب أن تركز على رفع جودة ونوعية الخدمات الصحية، لتشمل كافة المواطنين، خاصة وأن أكثر من 50% من المواطنين لا يشملهم التأمين الصحي الحكومي.
ويضيف: من أهم ركائز دعم صمود المواطنين، التركيز على قطاعات الصحة، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، علاوة على تخصيص موارد أكبر للزراعة، وبالتالي لا بد من توزيع الموازنة لتشمل هذه القطاعات الحيوية.
ويقول: إننا ندرك أن هناك قيوداً اقتصادية على السلطة، ارتباطاً بظروف الاحتلال، واتفاق باريس الاقتصادي، لكن ذلك لا يلغ الحاجة إلى إستراتيجية للتحرر من هذه القيود.
ويضيف البرغوثي: إن أكثر من 70% من العائدات الضريبية تمر عبر إسرائيل، ما يفرض قيوداً على القرار الاقتصادي والسياسي الفلسطيني، وبالنتيجة فلا يمكن الحديث عن إستراتيجية دون التحرر من هذا القيد.
تقدم في المؤشرات الاقتصادية
وفي المقابل، يؤكد مدير مركز الإعلام الحكومي، والناطق باسم الحكومة د. غسان الخطيب، أنه بصرف النظر عما ورد في تقرير "بيسان"، فإنه عقب العام 2008، حدث هناك نمو اقتصادي، الأمر الذي اقترن بانخفاض نسبة المساعدات الخارجية، وتزايد نسبة الإيرادات المحلية، وحصول تراجع في معدلات الفقر والبطالة في الأراضي الفلسطينية.
ويستدرك: رغم التحسن الذي حصل خلال الفترة الماضية، إلا أن الوضع الاقتصادي في قطاع غزة تدهور لاعتبارات لا تخفى على أحد، لكن كل ذلك ينبغي ألا يجعلنا نغفل عن التقدم الذي طرأ فيما يتعلق بخفض معدلات الفقر والبطالة، والناتج المحلي الإجمالي، إلى غير ذلك، وبالتالي فإن المؤشرات الاقتصادية تحسنت بصورة ملحوظة خلال الفترة التي لا يتناولها التقرير، أي ما بعد العام 2008.
ويضيف: من الأمور المهمة التي لا بد من التركيز عليها مسألة تراجع نسبة المساعدات بمقدار النصف، فبينما بلغت العام 2008 نحو 8ر1 مليار دولار، ستصل العام الحالي نحو 900 ألف دولار، وإن تراجع المساعدات اقترن بزيادة الإيرادات المحلية.
وهو يؤكد أن نجاح التنمية لا يمكن أن يتم إلا بإنهاء الاحتلال والانقسام، مضيفا "اقتصاد غزة كان يساوي نحو ثلث الاقتصاد الفلسطيني، وبالتالي فهذا الثلث مجزأ".
ويستدرك: لكن الأمر الذي لا بد من أن يحسب للحكومة هو نجاحها في بناء مؤسسات الدولة، وبالتالي بتنا قادرين على أن نكون مستقلين متى ما انتهى الاحتلال، وبالنتيجة فإن هناك أموراً لا بد من استكمالها في إطار عملية البناء تشمل السيطرة على مواردنا الطبيعية، وحدودنا، وأرضنا.
ويقول: ما لا بد من التأكيد عليه هو أن لا أحد يتحدث عن إنجاز تنمية مستدامة في ظل الاحتلال، وبالتالي فما نقوله هو أن لدينا اقتصاد صمود في ظل الاحتلال، ولدينا تطور في بناء مؤسسات الحكم، ما اقترن بحدوث بعض التقدم على الصعيد الاقتصادي.
ويقول: الواقع الاقتصادي يرتبط بعدة عوامل، من ضمنها الوضع السياسي، فإذا شهدت المرحلة المقبلة صعوبات على المستوى السياسي، فهذا سيعكس نفسه بالتأكيد على الجانب الاقتصادي، لكن إذا شهد الجانب السياسي تقدما، فسيرافق ذلك مزيد من التقدم الاقتصادي.
وهو يحذر من الأزمة المالية للسلطة مرشحة للاستمرار خلال الفترة القادمة، إذا ما استمر عدم انتظام دفع المساعدات للسلطة.